فصل: سورة التوبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (67- 75):

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} ما صح له ولا استقام {أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} {أَن تَكُونَ}: بصري {حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} الإثخان كثرة القتل والمبالغة فيه من الثخانة وهي الغلظ والكثافة حتى يذل الكفر بإشاعة القتل في أهله، ويعز الإسلام بالاستيلاء والقهر، ثم الأسر بعد ذلك. رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه وعقيل فاستشار النبي عليه السلام أبا بكر فيهم فقال: قومك وأهلك، استبقهم لعل الله يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك. وقال عمر رضي الله عنه: كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر، وإن الله أغناك عن الفداء، مكن علياً من عقيل، وحمزة من العباس، ومكني من فلان لنسيب له، فلنضرب أعناقهم. فقال عليه السلام: «مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم حيث قال: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (إبراهيم: 36) ومثلك يا عمر كمثل نوح حيث قال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} (نوح: 26)» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: «إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم» فقالوا: بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد فلما أخذوا الفداء نزلت الآية {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} متاعها يعني الفداء سماه عرضاً لقلة بقائه وسرعة فنائه {والله يُرِيدُ الآخرة} أي ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل {والله عَزِيزٌ} يقهر الأعداء {حَكِيمٌ} في عتاب الأولياء.
{لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله} لولا حكم من الله {سَبَقَ} أن لا يعذب أحداً على العمل بالاجتهاد وكان هذا اجتهاداً منهم لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم، وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد، وخفي عليهم إن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم، أو ما كتب الله في اللوح أن لا يعذب أهل بدر، أو ألا يؤاخذ قبل البيان والإعذار. وفيما ذكر من الاستشارة دلالة على جواز الاجتهاد فيكون حجة على منكري القياس. {كِتَابٌ} مبتدأ و{مِنَ الله} صفته أي لولا كتاب ثابت من الله و{سَبَقَ} صفة أخرى له، وخبر المبتدأ محذوف أي لولا كتاب بهذه الصفة في الوجود، و{سَبَقَ} لا يجوز أن يكون خبراً لأن {لولا} أبداً {لَمَسَّكُمْ} لنالكم وأصابكم {فِيمَا أَخَذْتُمْ} من فداء الأسرى {عَذَابٌ عظِيمٌ} روي أن عمر رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال: يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت.
فقال: «أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» لشجرة قريبة منه. وروي أنه عليه السلام قال: «لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ» لقوله كان الإثخان في القتل أحب إليّ {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} رُوي أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدوا أيديهم إليها فنزلت. وقيل: هو إباحة للفداء لأنه من جملة الغنائم. والفاء للتسبيب والسبب محذوف، ومعناه قد أحللت لكم الغنائم فكلوا {حلالا} مطلقاً عن العتاب والعقاب من حل العقال وهو نصب على الحال من المغنوم، أو صفة للمصدر أي أكلاً حلالاً {طَيِّباً} لذيذاً هنيئاً أو حلالاً بالشرع طيباً بالطبع {واتقوا الله} فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه {إِنَّ الله غَفُورٌ} لما فعلتم من قبل {رَّحِيمٌ} بإحلال ما غنمتم. {ياأيها النبي قُل لّمَن فِي أَيْدِيكُم} في ملكتكم كأن أيديكم قابضة عليهم {مِّنَ الاسرى} جمع أسير من الأسارى أبو عمرو جمع أسرى {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} خلوص إيمان وصحة نية {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} من الفداء، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه أو يثيبكم في الآخرة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} رُوي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مال البحرين ثمانون ألفاً، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ منه ما قدر على حمله وكان يقول: هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة، وكان له عشرون عبداً وإن أدناهم ليتجر في عشرين ألفاً وكان يقول: أنجز الله أحد الوعدين وأنا على ثقة من الآخر {وَإِن يُرِيدُواْ} أي الأسرى {خِيَانَتَكَ} نكث ما بايعوك عليه من الإسلام بالردة أو منع ما ضمنوه من الفداء {فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} فأمكنك منهم أي أظفرك بهم كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوالخيانة {والله عَلِيمٌ} بالمال {حَكِيمٌ} فيما أمر في الحال.
{إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ} من مكة حباً لله ورسوله {وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} هم المهاجرون {والذين ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ} أي آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم وهم الأنصار {أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي يتولى بعضهم بعضاً في الميراث، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة وبالنصرة دون ذوي القرابات حتى نسخ ذلك بقوله {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} وقيل: أراد به النصرة والمعاونة {والذين ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ} من مكة {مَا لَكُم مّن ولايتهم} من توليهم في الميراث {ولايتهم} حمزة.
وقيل: هما واحد {مّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} فكان لا يرث المؤمن الذي لم يهاجر ممن آمن وهاجر، ولما أبقى للذين لم يهاجروا اسم الإيمان وكانت الهجرة فريضة فصاروا بتركها مرتكبين كبيرة، دل على أن صاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان {وَإِنِ استنصروكم} أي من أسلم ولم يهاجر {فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} أي إن وقع بينهم وبين الكفار قتال وطلبوا معونة فواجب عليكم أن تنصروهم على الكافرين {إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ} فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم لأنهم لا يبتدئون بالقتال، إذ الميثاق مانع من ذلك {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تحذير عن تعدي حد الشرع.
{والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ظاهره إثبات الموالاة بينهم، ومعناه نهي المسلمين عن موالاة الكفار وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانوا أقارب وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضاً. ثم قال: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} أي إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضاً حتى في التوارث تفضيلاً لنسبة الإسلام على نسبة القرابة، ولم تجعلوا قرابة الكفار كلا قرابة {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة، لأن المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً {والذين ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله والذين ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً} لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والسكن والانسلاخ من المال والدنيا لأجل الدين والعقبى {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا منة فيه ولا تنغيص ولا تكرار، لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم مع الوعد الكريم والأولى للأمر بالتواصل {والذين ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ} يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة {وَهَاجَرُواْ وجاهدوا مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ} جعلهم منهم تفضلاً وترغيباً {وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} وأولوا القرابات أولى بالتوارث وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة {فِي كتاب الله} في حكمه وقسمته أوفى اللوح، أو في القرآن وهو آية المواريث وهو دليل لنا على توريث ذوي الأرحام {أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه. قسم الناس أربعة أقسام: قسم آمنوا وهاجروا، وقسم آمنوا ونصروا، وقسم آمنوا ولم يهاجروا، وقسم كفروا ولم يؤمنوا.

.سورة التوبة:

مدنية وهي مائة وتسع وعشرون آية كوفي ومائة وثلاثون غيره.
لها أسماء: براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافرة، المنكلة، المدمدمة، لأن فيها التوبة على المؤمنين وهي تقشقش من النفاق أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين وتبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها، وتفضحهم وتنكلهم وتشردهم وتخزيهم وتدمدم عليهم. وفي ترك التسمية في ابتدائها أقوال؛ فعن علي وابن عباس رضي الله عنهم، أن بسم الله أمان وبراءة نزلت لرفع الأمان. وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه سورة أو آية قال: " اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا " وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أين نضعها، وكانت قصتها تشبه قصة الأنفال لأن فيها ذكر العهود وفي براءة نبذ العهود، فلذلك قرنت بينهما وكانتا تدعيان القرينتين وتعدان السابعة من الطوال وهي سبع. وقيل: اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: الأنفال وبراءة سورة واحدة نزلت في القتال، وقال بعضهم: هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان، وتركت بسم الله لقول من قال هما سورة واحدة.

.تفسير الآيات (1- 8):

{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)}
{بَرَاءةٌ} خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة {مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مّنَ المشركين} من لابتداء الغاية متعلق بمحذوف، وليس بصلة كما في قولك (برئت من الذين)أي هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم كما تقول (كتاب من فلان إلى فلان)، أو مبتدأ لتخصيصها بصفتها والخبر {إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ} كقولك (رجل من بني تميم في الدار) والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم {فَسِيحُواْ في الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} فسيروا في الأرض كيف شئتم. والسيح: السير على مهل. روي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا لا يتعرض لهم، وهي الأشهر الحرم في قوله {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها. وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، وأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على موسم سنة تسع، ثم أتبعه علياً راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر. فقال: لا يؤدّي عني إلا رجل مني. فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور. فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحثهم على مناسكهم وقال عليّ يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: يا أيها الناس، إني رسول رسول الله إليكم فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية، ثم قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده، فقالوا عند ذلك: يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف؛ والأشهر الأربعة: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، أو عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر، وكانت حرماً لأنهم أمنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم، أو على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها. والجمهور على إباحة القتال في الأشهر الحرم وأن ذلك قد نسخ {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} لا تفوتونه وإن أمهلكم {وَأَنَّ الله مُخْزِى الكافرين} مذلهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب.
{وَأَذّان مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس} ارتفاعه كارتفاع {بَرَاءةٌ} على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها، والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء، والفرق بين الجملة الأولى والثانية أن الأولى إخبار بثبوت البراءة، والثانية إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت. وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين، وعلق الأذان بالناس، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأما الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث {يَوْمَ الحج الأكبر} يوم عرفة لأن الوقوف بعرفة معظم أفعال الحج، أو يوم النحر لأن فيه تمام الحج من الطواف، والنحر، والحلق، والرمي، ووصف الحج بالأكبر، لأن العمرة تسمى الحج الأصغر {أَنَّ الله بَرِئ مّنَ المشركين} أي بأن الله حذفت صلة الأذان تخفيفاً {وَرَسُولُهُ} عطف على المنوي في {بَرِيء} أو على الابتداء وحذف الخبر أي ورسوله بريء، وقرئ بالنصب عطفاً على إسم {إن}، وبالجر على الجوار، أو على القسم كقولك (لعمرك). وحكي أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال: إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء، فلببه الرجل إلى عمر فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعلم العربية {فَإِن تُبْتُمْ} من الكفر والغدر {فَهُوَ} أي التوبة {خَيْرٌ لَّكُمْ} من الأصرار على الكفر {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عن التوبة أو تبتم على التولي والإعراض عن الإسلام {فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى الله} غير سابقين الله ولا فائتين أخذه وعقابه {وَبَشّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} مكان بشارة المؤمنين بنعيم مقيم {إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين} استثناء من قوله: {فَسِيحُواْ في الأرض} والمعنى: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم منهم {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} من شروط العهد أي وفوا بالعهد ولم ينقضوه. وقرئ {لَمْ ينقضوكم} أي عهدكم وهو أليق لكن المشهورة أبلغ لأنه في مقابلة التمام {وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً} ولم يعاونوا عليكم عدواً {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} فأدوه إليهم تاماً كاملاً {إلى مُدَّتِهِمْ} إلى تمام مدتهم، والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين: لكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ولا تجعلوا الوفي كالغادر {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} يعني أن قضية التقوى ألا يسوّي بين الفريقين فاتقوا الله في ذلك.
{فَإِذَا انسلخ} مضى أو خرج {الأشهر الحرم} التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا {فاقتلوا المشركين} الذين نقضوكم وظاهروا عليكم {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} من حل أو حرم {وَخُذُوهُمْ} وأسروهم، والأخذ: الأسر {واحصروهم} وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} كل ممر ومجتاز ترصدونهم به، وانتصابه على الظرف. {فَإِن تَابُواْ} عن الكفر {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر، أو فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم {أَنَّ الله غَفُورٌ} بستر الكفر والغدر بالإسلام {رَّحِيمٌ} برفع القتل قبل الأداء بالإلتزام {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} {أَحَدٌ} مرتفع بفعل شرط مضمر يفسره الظاهر أي وإن استجارك أحد استجارك، والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه واستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن فأمّنه {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر على أن المستأمن لا يؤذي وليس له الإقامة في دارنا ويمكن من العود {ذلك} أي الأمر بالإجارة في قوله {فَأَجِرْهُ} {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلابد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا أو يفهموا الحق {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} {كَيْفَ} استفهام في معنى الاستنكار أي مستنكر أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم. ثم استدرك ذلك بقوله {إِلاَّ الذين عاهدتم} أي ولكن الذين عاهدتم منهم {عِندَ المسجد الحرام} ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم {فَمَا استقاموا لَكُمْ} ولم يظهر منهم نكث أي فما أقاموا على وفاء العهد {فاستقيموا لَهُمْ} على الوفاء.
و{ما} شرطية أي فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} يعني أن التربص بهم من أعمال المتقين.
{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، وحذف الفعل لكونه معلوماً أي كيف يكون لهم عهد وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم أي يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ} لا يراعوا حلفاً ولا قرابة {وَلاَ ذِمَّةً} عهداً {يُرْضُونَكُم بأفواههم} بالوعد بالإيمان والوفاء بالعهد وهو كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد {وتأبى قُلُوبُهُمْ} الإيمان والوفاء بالعهد {وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون} ناقضون العهد أو متمردون في الكفر، لا مروءة تمنعهم عن الكذب، ولا شمائل تردعهم عن النكث كما يوجد ذلك في بعض الكفرة من التفادي عنهما.